كما سبق رأينا الكاتبة ذات ميل أسرى ، عائلى ، لذا عالجت موضوعاتها المخيفة برهافة عالية ، وبلا أى ميل للاستنزاف اللغوى الذى يصيب بعض الكاتبات ، كما أنها لم تصرح مطلقا بلفظ جارح ، ولم تعط وجهة نظرها ، إنما تركت للقارىء حرية اتخاذ الموقف الذى يتقبله .. لذا نجدها فى قصة " أول يوم فى العام الدراسى " ورغم رداءة العنوان مقاليته ، فقد قدمت مشهدا حيا منقولا بصدق من المدارس الحكومية ، فتاة فقيرة – أمل – تسير كيلو متر حتى تصل إلى مدرستها ، لكنها تحمل حميمية العلاقة بأبويها ، وفخرها بالأب البناء الفقير ، والأم التى تتمنى أن تعطى لابنتها الدنيا ، فى المقابل هناك "سامية " – لاحظ دلالات الأسماء المباشرة – ابنة الإقطاعى الجاهل ، والذى يأتى للفصل بصحبة الناظر ، الذى يتجاوز اختصاصاته ، ويعيث فى الفصل فسادا ، وحين يأتى وقت الراحة ، تحاول الفتاة أمل البحث عن من يقرضها لتشترى ساندويتش ، لكن يد أبيها تمتد بالطعام من بين قضبان الباب الحديدى ، وتحاول – هى المتفوقة – أن يدخل أبوها للمدرسة كما دخل والد سامية ، لكنها بالطبع تفشل ,,,
بناء شديد المتانة ، رغم تقليديته التى وصلت لتسمية الموجه مفتشا كما كان قديما ، لكنها أقامت البناء على عمودين متقابلين تماما ، الغنى والفقر ، البناء والهدم ، التعاطف الكاذب ، والجحود الظالم ، لكن نورا ضئيلا يشرق مع كلمات المدرس ( لم يبق إلا الإقطاعى الجاهل ) رغم أن كثيرين عايشوا هذه الحالة إلا أن الكاتبة نجحت فى اكتساب تعاطفنا معها ، واحترامنا وشفقتنا على بطلتها ، وانحيازها دائما ياتى عفويا ،والعفوية أجمل ما فى الفن .
فى القصة السابقة وفى قصة " جملة اعتراضية " تلجأ "سهام العربى " أيضا لضمير المتكلم ، بما يحمله من قدرة على الإقناع ، وكشف عن دواخل الناس ، ومن قدرة على إحداث التعاطف ، لأنه يجعل الحكاية المسرودة مندمجة فى روح المؤلف ، فيذوب الحاجز الزمنى ، بحكم أن المؤلف يغيب فى الشخصية التى تسرد عمله – كما يقول د. مرتاض .
ولذا فنحن مع الطفل وأبيه القاسى ، وهو يدفعه أثناء الأجازة للعمل تباعا ، فتبدأ القصة هكذا :
ـ دمنهور .. دمنهور .
ـ ارفع صوتك يا خرع .
صورة للأب القاسى ، فى أبشع حالاته ، سائق يجذب ابنه للعمل فى مجال غير متناسب مع الطفل ، بل يدفعه دائما لإشعال السيجارة ، وشد النفس الأول ، قبل أن يتلقاها الأب ، عمل الأب لا يعكس نظرة دونية لدى الكاتبة للمهنيين ، فقد رأينا صورة غاية فى النبل للأب البناء ، إنما القسوة تتعلق بمفاهيم تربوية لا علاقة لها بالعمل بالضرورة .
لكن الملاحظ أن الكاتبة تميل بشكل واضح للكتابة الميلودرامية الباكية الكئيبة الحزينة ، لمسة أنثوية ، رغم هجران الكاتبة لما سعت له بعض الكاتبة من " تأنيث كتاباتهن ، لذا فى قصة معذبة وعذبة مثل " أنا والعندليب " نرى الأم الأسيانة وهى تسعى لانتشال ابنها من الاستسلام للمرض والموت ، وتلذذه بألمه ، وهو يكتب فوق الأعمدة ( توفى إلى رحمة الله تعالى عصام درويش ويوقع بين قوسين حليم ) ولا أدرى سببا لهذه القصة التى انتهت أزمانها منذ أكثر من ربع قرن زمنيا وفكريا ، والعودة بالقص إلى لغة المنفلوطى وعذرية لغته التى وصفها المازنى بالميوعة . أما لغة " سهام العربى " فهى لغة فصيحة راقية جدا ، بسيطة جدا ، لا تقف فصحاها عائقا أمام التلقى البسيط للقارىء العادى ، والحوار دوما فصيحا مختصرا مركزا :
قال من بين لهاثه :
ـ سمعتها تبكى .
سألته فى شك :
ـ هل صعدت فوقها ؟
قال : أجبرنى رفيقى على تسلقها معه .
ـ ألم أنهك عن الذهاب إليها ؟
ـ قال إن ثمارها لذيذة .
وفى قصة " من ثقب إبرة " يبرز عنصر الحكى رائقا عذبا لديها ، وبنفس قدرتها الواضحة على الوصف ، مع لغة إيحائية ذكية ، تستقطب وعى القارىء حتى يتابع سيل الضمائر التائهة ، كذلك قدمت صورة الفتاة المجنونة ، بشكل طيب ، ولم تسقط ضحية الاستسهال فى تناول شخصية الفتاة ، بل اكتفت فقط بجملة واحدة
ـ رب موت ؟؟ تقصد يارب تموت .
بهذا الرقى اللغوى والفكرى قدمت الكاتبة مجموعة مميزة ، كاشفة عن كاتبة لها مشروعها ، لكنها تحتاج توسيع دائرة وعيها عبر قراءة أكثر عمقا ، لتضفر لغتها ورؤيتها بوجهة نظرها .
الجمعة 18/6/2010م .
الهوامش والمراجع
(1) سيد الوكيل – أفضية الذات – س كتابات نقدية – المقدمة .
(2) وليم فوكنر ـ الصوت المنفرد – ترجمة دكتور محمود الربيعى - هيئة الكتاب – مصر – 1993م صـ 23
(3) د. عبد الملك مرتاض – فى نظرية الرواية – عالم المعرفة – الكويت ديسمبر 1998م صـ 264
(4) السابق صـ 184.
(5) نقلا عن أصوات مصرية فى الشعر والقصة القصيرة – س أصوات معاصرة – يناير 2002م صـ 84
(6) روجيه جارودى – واقعية بلا ضفاف – ترجمة حليم طوسون ومراجعة فؤاد حداد – هيئة الكتاب 1998م صـ 147
(7) جان مارى شيفر – ما الجنس الأدبى – ترجمة غسان السيد – مطبوعات اتحاد الكتاب العرب – دمشق – صـ 16، 17.
(8) الصوت المنفرد ـ سابق ـ صـ 26
(9) عبد الله إبراهيم – المتخيل السردى – المركز الثقافى اللبنانى – 1990 صـ 9
(10) انظر دراسة "الحيوان الروائى " للباحث منشورة بمجلة "الفصول الأربعة الليبية " أغسطس 2009م صـ65
(11) د. محمود الضبع –الشعرى فى السردى – ضمن كتاب أسئلة السرد الجديد – هيئة قصور الثقافة 2008م صـ 372
(12) عن د. سيزا قاسم – بناء الرواية - الهيئة المصرية العامة للكتاب – عام 2004م صـ 104
(13) سامية أسعد/ القصة القصيرة وقضية المكان/ مجلة فصول/ المجلد2 العدد4 السنة1982ـ صـ 191
(14) الاقتباس عن بوتوبر نقلا عن كتاب " الرواية ايوم " تحرير مالكوم برادبرى – ترجمة أحمد عمر شاهين – الهيئة 2005م – صـ 9 وصفحات أخرى – بتصرف يسير . * البو : جلد الجمل الصغير يحشى بالقش ويقام أمام الناقة لتعتقد أنه وليدها لتظل تحنو باللبن ، وفى القصة جلد العجل الصغير ، وقد ذكر هذا التعريف الكاتب الراحل محمد مستجاب فى قصة بنفس العنوان – البو – نشرت ضمن مجموعة "قيام وانهيار آل مستجاب " نشرت بسلسلة أصوات أدبية نوفمبر 95 صـ 79
(15) ميخائيل باختين – الخطاب الروائى – ت محمد برادة – دار الفكر – 1987م صـ 60
(16) بناء الرواية – سابق – 39